انقطع عمله إلا من ثلاث


 


إن المسلم يعلم أن له في هذه الحياة أجلا محدودًا وعمرًا معدودا، ثم ينتقل بعد انتهاء الحياة وانقضاء العمر إلى ربه سبحانه وتعالى؛ ليحاسبه على ما عمل؛ ولذا فهو يسعى لفعل ما يقدر عليه من الطاعات والقربات، وجمع ما يستطيعه من الحسنات، والبعد قدر طاقته عن الآثام والسيئات؛ حتى يلقى ربه بعمل يبيض به وجهه عنده {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}.

والعاقل الموفق هو الذي يعلم أنه إذا مات انقطع عمله، وأن العمل إنما هو في فترة العمر، وأن كل من مات تحسر بعد موته: إن كان مسيئا تحسر على إساءته وتقصيره، وإن كان محسنا، تحسر على أنه لم يزد في إحسانه، ويكثر من طاعاته، فهو يذكر نفسه دائما بهذه الحقيقة..
كما رُوي عن يزيدِ الرّقاشي أنه كان يقول لنفسه: (ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضَّى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن كان الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟) ثم يبكي رحمه الله.

وكان علي رضي الله عنه يقول: "ارتحلت الدُّنيا مدبرةً، وارتحلت الآخرة مقبلةً، ولكلِّ واحدةٍ منهما بّنُونَ، فكونوا من أبناءِ الآخرةِ، ولا تكونوا من أبناءِ الدنيا؛ فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عملٌ".

ومات صاحب لبعض الصالحين فأتاه في النوم فقال: "إنما نحن معاشر الأموات نعلم ولا نعمل، وأنتم معاشر الأحياء تعلمون ولا تعملون، ووالله لتسبيحة واحدةٌ أحبُّ إلى أحدنا من الدنيا وما فيها".

إن انفلاتَ الروحِ وانقضاء الحياة معناه انقطاعُ العمل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن تمني الموت، ويقول: (لا يَتَمَنَّى أحَدُكُمُ المَوْتَ، ولا يَدْعُ به مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهُ، إنَّه إذا ماتَ أحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإنَّه لا يَزِيدُ المُؤْمِنَ عُمْرُهُ إلَّا خَيْرًا). فإما محسن فيزيد في إحسانه، وإما أن يكون مسيئا فيستعتب ويتوب ويستغفر.

أقل عمرا وأعظم أجرا
هذه الأمة هي آخر الأمم، وهي أقصر الأمم أعمارا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمارُ أمَّتي ما بينَ الستينَ إلى السبعينَ وأقلُّهم مَنْ يجوزُ ذلِكَ)[رواه الترمذي]. وبالتالي فهي أقل الأمم أعمالا لقصر أعمارها، غير أن الله تعالى عوضها ـ ببركة نبيها ـ عن قصر الآجال بعظم الأجور وكثرة الثواب، فهي أعظم الأمم أجرا، وأكثرها ثوابا.
فمن ذلك أن الله أكرمها بليلة القدر، {وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر}[القدر: 2ـ3]، فجعل ليلة واحدة من قامها إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وكانت له كعبادة ألف شهر، يعني أكثر من ثلاث وثمانين سنة.
وكما في صحيح مسلم عن أبي أيوب الأنصاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ، كانَ كَصِيامِ الدَّهْر)ِ.
وفي حديث أوس بن أوس، قال صلوات الله وسلامه عليه: (من غسَّل واغتسَل يومَ الجمُعةِ، وبكَّر وابتكَر، ومشى ولم يركَبْ، ودنا من الإمامِ فاستمَع ولم يَلْغُ، كان له بكُلِّ خُطوةٍ عَمَلُ سنةٍ؛ أجرُ صيامِها وقيامِها).

انقطع عمله إلا من ثلاث
ومن بركة هذه الأمة، وبركة نبيها عليها، أن الله تعالى لم يقطع عنها جميع أعمالها بعد موتها، ولم يحرمها الثواب بانقضاء الأجل وانقطاع العمل فيه، وإنما جعل لها أعمالا تفتح لها بعد الموت أبوابا من الأجور والثواب والحسنات، وهي ما يعرف بالصدقات الجارية..
فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له).

والمؤمن الموفق هو الذي يسعى حثيثا ليكتنز قبل الموت عملا يجري عليه ثوابه بعد الموت، ويسارع في ذلك قبل أن يموت وينسى كما نسي الكثير من الناس، فلا يكاد أحد يذكرهم بدعوة فضلا أن يتفضل عليهم بصدقة
فاعمل لنفسك قبل موتك ذكرها .. .. فالذكر للإنسان عمر ثاني

وقد تمنى ذلك أقوام ولكن قتلهم التسويف وطول الأمل، ففجأهم الموت قبل ذلك، ولهذا أمرنا الله بالمسارعة في الخير والمسابقة إليه، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}[آل عمران:133]،، وقال: {سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}[الحديد:21]. فالموفق من سارع وسابق ليكون له من أحدها نصيب، أو منها جميعا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تمويل إماراتي بقيمة 60 مليار أوقية لجلب مياه الشرب من النهر

‏ضمن عملية الفارس الشهم/ 3 الإمارات تُسير سفينة المساعدات الإنسانية الخامسة.

الفارس الشهم3 يضع حجر الأساس لمشروع صيانة خطوط المياه في خانيونس